أُعلن في قصر الإليزيه مساء 12 أكتوبر 2025 عن التشكيلة الجديدة لحكومة سيباستيان لوكورنو، في خطوة تأتي في خضم أزمة سياسية خانقة، وضغوط اقتصادية لا تُحتَمَل.
النص الرسمي للبيان الصحافي الذي توصلت فرنسا بالعربي بنسخة منه مباشرة من الرئاسة الفرنسية جاء لإضفاء الشفافية، لكن الكواليس تكشف أن ما وراء الأبواب المقفلة يحكمها حسابات سياسية دقيقة، لا تنحصر في الأسماء بل في الرسائل والإشارات.
في هذا المقال، نقرأ التشكيلة الجديدة، من خرج ومن عاد ومن وُضِع في مواضع مفصلية، ونحاول استباق ما ينتظر هذه الحكومة في أيامها الأولى، في معترك الميزانية والمفاوضات البرلمانية.
1. خلفية السقوط السريع وإعادة التكليف
لوكورنو لم يشكل حكومة ثانية عابرة فحسب، بل دخل في سابقة تاريخية، فقد استقالت الحكومة السابقة التي شكّلها بعد ساعات من الإعلان عنها، ليُعاد تعيينه بعدها بأيام، ويُكلَّف مرة أخرى بتشكيل حكومة تتّسم “بالتجديد والتنوّع” حسب توصيفه.
هذه المراوغة ليست عفوية، بل تعبير عن صراع داخلي حول من يُسمَح له بالحكم، وكم مساحة المناورة المتبقية لرئيس الجمهورية في ضبط الكابينة التنفيذية وسط برلمان مشتّت ومتنافس.
في هذه الأثناء، يُلاحَظ أن لوكورنو اختار الإبقاء على عدد من الوجوه الأساسية في مواقعها، لتضمن استمرارية نسبية في بعض الملفات، لكنه أجرى تغييرات استراتيجية في منابر القوة مثل وزارة الداخلية والدفاع والطاقة.
2. قراءة في الأسماء: من خرج، من عاد، ومن جديد
إليك أبرز النقاط التي تستدعي التأمّل:
-
داخلُ المشهد: ثبات استراتيجي
الوزراء الذين أُعيد تثبيتهم، مثل رولاند ليسكور (الاقتصاد والمالية) وجان نويل بارو (الخارجية) وجيرالد دارمانان (العدل)، يُوفّرون قاعدة استمرار واستقرار في ملفات حساسة. وجودهم في التشكيلة يرمز إلى أن لوكورنو لا يريد انقلابات جذرية فورية، بل لحظة ضبط في خضم العاصفة.
هذا التمسّك بالكفاءات القديمة يُعدّ سيفًا ذا حدّين: من جهة يطمئن الأسواق والجهات الدولية، ومن جهة أخرى قد يولّد شعورًا بأن الحكومة لم تُجدد بما يكفي لتكون “حكومة أمل” في نظر الشارع -
تغيير مفصلي: الداخلية والدفاع
أبرز التغييرات كانت في حقيبة الداخلية، حيث تمَّ تعيين لوران نونيز وزيرًا للداخلية، قادمًا من منصب قائد شرطة باريس. -
هذه الخطوة تُقرأ كإشارة أن الحكومة تريد أن تضع السيطرة الأمنية في قلب أولوياتها، في وقت تواجه فيه احتجاجات اجتماعية متنامية.
في الدفاع، دخلت كاثرين فوتْران على الخطّ كوزيرة الجيوش والمخضرمين، وهو تعيين قد يحمل إشارات مرتبطة بالأولويات الأمنية الخارجية واستمرارية دعم باريس للعمليات في أوكرانيا وغيرها. -
وجه جديد أو في الظل: البيئة والتكنولوجيا والحِكْمَة
تم تعيين مونيك باربوت في وزارة الانتقال البيئي والتنوع البيولوجي، مع مهام التفاوض الدولي حول المناخ والطبيعة. -
اختيارها يوحي بأن الحكومة تريد أن ترفع سقف الطموح في ملف البيئة، وربطها بالمعايير الدولية، في وقت تُطالب فيه أوروبا بمزيد من الالتزام.
في المجالات الرقمية والصناعية، تمّ إسناد صلاحيات “الذكاء الاصطناعي والرقمنة” لـ آن لو هنابّ، بينما وُكّل ملف الصناعة إلى سيباستيان مارتن. -
هذان التعيينان يعكسان رغبة في التوازن بين القطاع العام والدفع نحو ديناميكية اقتصادية وتقنية.
-
من وجوه المفاجأة:
تعيين سيرج بابان وزيرًا للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتجارة والقوى الشرائية، يعكس تركيزًا على القطاع الذي يُعتبر القلب النابض للاقتصاد الوطني، ويُعد الأكثر تأثرًا بأزمة القدرة الشرائية.
كما أن استرجاع أنّي جنيفار لوزارة الزراعة يضع أمامها تحديات كبيرة، خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار الأسمدة، التغيرات المناخية، وضغوط الاتحاد الأوروبي على السياسات الزراعية. -
مَن خرج؟ مَن غاب؟
بعض الشخصيات التي لم تُذكر في التشكيلة أو لم يحصلوا على مواقع مركزية قد تُعدّ “ضحايا التجربة” أو “تكريسًا لضغوط الأحزاب”. -
لم يُذكر في البيان أسماء بعض الوزراء السابقين الذين كانوا محل توقعات لدوائر الإعلام، ما يفتح تساؤلاً حول مدى تأثير التوازن الحزبي والضغط البرلماني على التعيينات.
- أبرز المغادرين من الحكومة برونو روتايو زعيم حزب الجمهوريين الذي اختار أن يقاطع حزبه الحكومة نهائيا، و توعد بطرد أي عضو ينضم إليها من حزبه، كذلك خرج الاشتراكي مانويل فالس رئيس الحكومة السابق
3. التحديات التي تواجه هذه الحكومة: بين الميزانية والمصادمة
-
الميزانية 2026: ساعة الصفر
الحكومة الجديدة أمام مهمة فورية وهي إعداد مشروع ميزانية 2026 وعرضه أمام البرلمان قبل الموعد الدستوري. الضغط هائل، لأن فشلها في ذلك قد يُمكِّن المعارضة من استخدام المادة 49.3 أو فتح باب استجواب الحكومة أو حتى دفع نحو انتخابات مبكرة.
بل إن بعض المصادر الصحافية تشير إلى أن بعض الأرقام الأولية تشير إلى أن العجز قد يصل إلى نحو 5 ٪ من الناتج المحلي، ما يضع البلاد على شفير مالية واقتصادية هشّة. -
ثقة البرلمان وتوازن القوى
حكومة لوكورنو لا تمتلك أغلبية واضحة في الجمعية الوطنية. الأحزاب الكبيرة مثل اليسار المتشدد واليمين المتطرف هددت مسبقًا بتقديم طلبات استجواب أو إسقاط الحكومة في حال عدم تلبية بعض المطالب الأساسية.
في المقابل، حزب الاشتراكيين يُعدّ لاعبًا محوريًا، إذ أن تأييده أو امتناعه قد يحدّد مصير الحكومة. إن لم تُقدّم الحكومة تنازلات في قضايا مثل التقاعد أو الضرائب، فقد تُواجه رفضًا في البرلمان.
مثير للانتباه أن حزب “الجمهوريين” قد أعلن طرد ستة من أعضائه الذين قبلوا الانضمام إلى الحكومة، معتبراً أنهم لم يمثلوا الحزب بعد هذه الخطوة، ما يُشير إلى توتر داخل المعسكر اليميني نفسه. -
المراجعة في الملفات الاجتماعية
ملف التقاعد والإصلاحات الاجتماعية يَعد بأن يكون معتركًا خطيرًا، لا سيما إذا حاولت الحكومة تمرير إصلاحات جديدة في ظل رفض شعبي.
كذلك، ملف الطاقة والبيئة سيكون مراقبًا بدقة، خصوصًا مع وجود وزراء جدد في هذه الملفات، وضغوط أوروبية لخفض الانبعاثات وتعزيز التحول الأخضر. -
تحدي الثقة الدولية والأسواق
مع تدهور الوضع السياسي، صدرت تصريحات تحذيرية من وكالات التصنيف الدولية بشأن الخطر المالي الفرنسي، وقد تؤدي الاضطرابات الحكومية إلى ارتفاع تكلفة الديون أو فقدان ثقة المستثمرين.
الحكومة بحاجة إلى أن تبعث برسائل استقرار واضحة، وأن تُقدّم خطة اقتصادية مقنعة تُقنع الأسواق بأن فرنسا ستحترم التزامها المالي، دون التضحية بالنمو أو بقدرة المواطنين على الصمود.
4. قراءة في الرسائل السياسية والتكتيكية
-
إن اختيار لوكورنو لمنح وزارة الداخلية لشخص مثل لوران نونيز يأتي في توقيت متقاطع مع تصاعد التوترات في الشارع، ويُعد رسالة أن الأمن والاحتجاجات ستكون تحت الرقابة الصارمة.
-
من جهة أخرى، تكريس الوزراء القدامى في الحقائب الأساسية يشير إلى أن الحكومة تخشى “بداية جديدة متهوّرة”، وتفضل استثمار الخبرة والتوازن في زمن الأزمات.
-
كما أن بعض التعيينات في مجالات التكنولوجيا والبيئة وتصغير الحكومة تلمّح إلى أن الحكومة تنوي أن تراعي متطلبات العصر، وتطمح في جزء من رهانها إلى “حداثة مقنّعة” بدلاً من تغيّر جذري.
-
في المشهد العام، تبدو حكومة لوكورنو “تشكيلة ضاغطة” — أي أنها ليست مصمّمة للنمو أو للمغامرة، بقدر ما هي محاولة لبقاء مؤقت في وسط العاصفة، مع الرهان على أن تُهذب النزاعات من الداخل وتفرض احترامها تدريجيًا.
5. هل تصمد الحكومة أم تُختبر سريعًا؟
حكومة لوكورنو الثانية ليست بداية عهدٍ جديد بقدر ما هي محاولَة مؤقتة لإعادة التوازن وسط فوضى سياسية مستعرّة.
إذا نجحت في تمرير الميزانية، وتأمين دعم برلماني ولو جزئي، فقد تمنح البلاد استراحة قصيرة من الأزمة.
لكن إذا انهارت في أول اختبار برلماني، فستكون هي – أو الحكومة – التالية التي تسقط، وربما تفتح الطريق لانتخابات مبكرة قبل الموعد.
بالنسبة لصحيفة فرنسا بالعربي، هذا التحليل ليس غاية في الحدس بل تنبؤ بحذر، مستند إلى الأسماء المعروفة، التوازنات الحزبية، والضغوط التي لا تُحتمل في المشهد الفرنسي الراهن. وسواء نجحت الحكومة أو فشلت، فإن الجمهورية الخامسة ستبتلع في هذه الأيام صفحة ملتهبة أخرى من تاريخها الملتبس بين الثورة والتغيير والاستقرار الهشّ.
2.1 بصمة نسائية مزدوجة من أصول مغربية
من بين أبرز ملامح التشكيلة الجديدة، بروز حضور نسائي من أصول مغربية يعيد التأكيد على تنوّع المشهد السياسي الفرنسي وعمق اندماج الكفاءات المغاربية في مراكز القرار. فقد حافظت رشيدة داتي، السياسية المخضرمة ذات الأصول المغربية، على موقعها كوزيرة للثقافة، في استمرار يرمز إلى رغبة الإليزيه في الاستفادة من شخصيتها القوية وقدرتها على إدارة الملفات الثقافية بجرأة سياسية لافتة. داتي، التي كانت من أبرز وجوه حكومة نيكولا ساركوزي سابقًا، تمثل اليوم صلة وصل بين جيلين من السياسة الفرنسية: جيل الإصلاح المحافظ، وجيل التواصل الثقافي والانفتاح.
أما نعيمة موتشو، النائبة السابقة المعروفة بدفاعها عن التعددية والمساواة، فقد دخلت الحكومة من بوابة وزارة ما وراء البحار ، لتكون من بين الوجوه الجديدة التي تمثل الجيل السياسي الصاعد داخل الأغلبية الرئاسية. تعيينها في هذا المنصب الحساس يحمل دلالة رمزية وسياسية مزدوجة: فهو من جهة يعكس الثقة في قدرة الكفاءات من أصول مهاجرة على إدارة ملفات الدولة العميقة، ومن جهة أخرى يعيد فتح النقاش حول تمثيلية الأقليات المغاربية في مؤسسات القرار الفرنسي.
وجود داتي وموتشو معًا في هذه الحكومة ليس مجرد صدفة؛ بل يُقرأ كرسالة متعمّدة من لوكورنو والإليزيه إلى الشارع الفرنسي مفادها أن الجمهورية الخامسة لا تزال قادرة على التجدد عبر تنويع وجوهها، حتى في زمن الأزمات والانقسامات السياسية والاجتماعية.
