«هذا البلد أعطاني الكثير، وها أنا أرد له الجميل بمهنتي كطبيب»… جملة تختصر مسيرة استثنائية لشاب سوري تحوّل من لاجئ هارب من القصف إلى طبيب طوارئ في أحد أبرز المستشفيات الفرنسية. إنها قصة ألكسندر سمعان، ابن بلدة ربلّة السورية، الذي يبلغ اليوم 27 عامًا، ويقف شامخًا بعد رحلة محفوفة بالخطر والمثابرة.
💥 طفولة في قلب الخوف
عندما كان مراهقًا، لم يكن يوم ألكسندر يشبه أيام أقرانه في العالم. لم يعرف ألعاب المراهقة أو رحلات المدرسة، بل عرف أصوات القنابل وصفارات الإسعاف ووقع الانفجارات.
يروي بأسى:
«في أحد الأيام انفجرت سيارة مفخخة على بعد مئتي متر فقط من مدرستي. شاهدت بأم عيني مشاهد لا تُمحى: جثث متناثرة، أشلاء بشرية، دماء على الأرصفة، وجدران منهارة. منذ ذلك اليوم، لم أعد أجرؤ على الخروج من المنزل.»
هذه التجربة تركت ندبة عميقة في روحه، لكنها في الوقت نفسه زرعت داخله تصميمًا مضاعفًا على النجاة والبحث عن أفق آخر.
🛑 رحلة محفوفة بالموت نحو الحرية
في السادسة عشرة من عمره، وبعد رفض طلبات لجوئه المتكررة، اتخذ القرار الأصعب: مغادرة وطنه خلسة. عبر طرق التهريب وسماسرة الحدود، تنقّل من سوريا إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، فالنمسا وألمانيا، وصولًا إلى فرنسا.
«قضيت يومين كاملين ممددًا فوق شاحنة مع أربعة أشخاص آخرين. لم يكن مسموحًا لنا بالكلام أو الحركة. كنت أتبول في زجاجة، وأحرّك أصابعي فقط كي لا يتوقف الدم عن الجريان. عندما نزلت من الشاحنة، لم أستطع الوقوف على قدمي. بكيت بحرقة، بكاءً لم أعرفه من قبل.»
ورغم أن الرحلة كانت أقرب إلى كابوس، فإنها كانت بوابة حياة جديدة.
🎓 بداية جديدة… بلغة جديدة
استقر ألكسندر في مدينة تولوز، والتحق بمدرسة ثانوية. لم يكن يتقن كلمة واحدة بالفرنسية، لكنه عوّض ذلك بإصرار نادر. كان يقضي ساعات مضاعفة بين دراسة العلوم وتعلّم اللغة.
بجهد خارق، حصل على الباكالوريا العلمية بميزة “Très Bien”، وهو إنجاز بدا شبه مستحيل لشاب لم يتقن اللغة قبل سنوات قليلة.
ثم خاض امتحان الطب في جامعة ليموج. فشل في المحاولة الأولى بفارق خمسين مقعدًا فقط، لكنه لم ييأس. أعاد الكرة، وتفوّق في العام التالي ليدخل بين الأربعين الأوائل. واصل مسيرته دون رسوب، متنقلًا بين الدروس النظرية والمناوبات الطبية، حتى قرر أن يختص في الطوارئ، حيث يكون القرار سريعًا، والتدخل فاصلًا بين الحياة والموت.
🩺 الطبيب الذي اختار الطوارئ
اليوم، يشغل ألكسندر منصب طبيب في قسم الطوارئ بمستشفى تور (Indre-et-Loire).
«في هذا القسم أحب اللحظة الأولى مع المريض، وأحب الأدرينالين والعمل الجماعي. صحيح أننا غالبًا نعمل بنقص في الكادر الطبي ونشعر بالإرهاق، لكن التعب يتلاشى أمام شعورنا بأننا نُحدث فرقًا في حياة الناس.»
بالنسبة له، ارتداء المعطف الأبيض لم يكن مجرد مسار وظيفي، بل تتويجًا لحلم طفولي كتبه على ورقة صغيرة قال فيها: «أريد أن أصبح طبيبًا لأعالج الناس وأساعدهم». ورقة احتفظت بها والدته طويلًا، قبل أن تعيدها إليه بعد سنوات، لتصبح رمزًا لانتصار الإرادة على المستحيل.
🎤 من الصمت المفروض إلى قوة الخطاب
لكن قصة ألكسندر لا تقتصر على النجاح الأكاديمي. ففي سوريا، عاش في بلد «للجدران فيه آذان»، حيث لم يكن الكلام الحر مسموحًا. وعندما وصل إلى فرنسا، اكتشف قيمة الكلمة.
سجّل اسمه في مسابقة Eloquentia Limoges لفن الخطابة، وفاجأ الجميع حين فاز بالمركز الأول في مايو الماضي.
«في طفولتي كان الصمت يُفرض عليّ. ومع الوقت يصبح الصمت عادة. لكنني في فرنسا قررت أن يكون الصمت خيارًا لا إجبارًا. عندما وقفت لأروي قصتي، شعرت بحرية لم أعرفها في حياتي.»
منذ ذلك اليوم، أصبح رئيسًا لفرع “إيلوكوانسيا ليموج”، يساعد شبابًا آخرين على التعبير عن أنفسهم، وبلغ نصف نهائي المسابقة الدولية في باريس. لقد تحوّل من لاجئ صامت إلى خطيب يقف أمام مئات الأشخاص بثقة.
🇫🇷 رد الجميل لفرنسا
اليوم، يتقدّم ألكسندر بطلب الحصول على الجنسية الفرنسية، معتبرًا أن فرنسا لم تمنحه فقط ملجأ آمنًا، بل منحته فرصة ليعيد بناء حياته من الصفر.
«أشعر أنني أصبحت أخيرًا شرعيًا هنا. فرنسا منحتني فرصًا لم أكن أحلم بها. والآن، بصفتي طبيبًا، أشعر أنني أرد لها جزءًا من هذا الجميل.»
✨ قصة إنسانية ملهمة
بين ركام الحرب وهدير سيارات الإسعاف، بين خوف المراهقة في ربلّة وأضواء قاعات المستشفيات الفرنسية، تمتد حكاية ألكسندر سمعان كمرآة لمعاناة ملايين اللاجئين، وكدليل حي على أن الإرادة قادرة على قلب الموازين.
إنها ليست مجرد قصة نجاح فردية، بل رسالة أمل إنسانية: أن من يهرب من الموت قد يصبح سببًا في إنقاذ حياة الآخرين.