تعيش الجالية المسلمة في مدينة بواتييه الفرنسية على وقع صدمة بعد إعلان بيع الجامع القديم في شارع غيّوم دو تروبّادور بالمزاد العلني مطلع شهر نوفمبر المقبل. هذا المكان، الذي شكّل لعقود قلب الحياة الروحية والاجتماعية للمسلمين في المدينة، يواجه اليوم مصيرًا يصفه كثيرون بأنه “طعنة في الذاكرة الجماعية”.
على مدى ما يقارب ستين عامًا، كان هذا المبنى الصغير يحتضن الصلوات، اللقاءات، أفراح المناسبات وأتراحها، وكان شاهدًا على رحلة أجيال كاملة من العمال والمهاجرين الذين ساهموا في بناء المدينة وخدمتها بإخلاص. يقول أحد أبناء الجالية: “هذا المسجد لم يكن مجرد جدران… كان بيتًا للروح والانتماء، واليوم يُباع كما تُباع قطعة أثاث قديمة.”
الخبر انتشر كالنار في الهشيم عبر الأحياء ووسائل التواصل الاجتماعي، وسط شعور بالخذلان من السلطات المحلية التي سمحت، بصمت مريب، ببيع هذا الرمز الديني دون استشارة أو إشعار للجالية التي شيّدته بجهودها وتضحياتها.
ويعود أصل المسجد إلى السبعينيات، حين وافق عمدة المدينة آنذاك، جاك سانترو، على تخصيص هذا المبنى للجالية المسلمة ليكون فضاءً للصلاة والتأمل والسكينة. وكان الاتفاق آنذاك يعكس روح الحوار والانفتاح التي ميّزت تلك المرحلة.
أما اليوم، فإن مشهد اختفاء المسجد في صمت إداري بارد يثير موجة من التساؤلات والغضب. تقول إحدى الناشطات الثقافيات في المدينة:
“كان يمكن تحويل هذا المكان إلى مركز للذاكرة والثقافة الإسلامية، ليكون مساحة للتلاقي والتبادل والانفتاح، كما فعلت مدن كبرى مثل باريس وليون وليل.”
ويرى كثيرون أن القرار لا يمسّ فقط بجدران مسجد، بل بـ معنى الوجود نفسه للمسلمين في المجتمع الفرنسي، الذين يزيد عددهم في منطقة بواتييه عن عشرة آلاف شخص. فالمكان بالنسبة إليهم ليس فقط دار عبادة، بل جزء من هوية وتاريخ ومعركة اعتراف.
الجالية، من جانبها، تطالب البلدية بالتراجع عن البيع وإعادة النظر في مصير المبنى، ودعت إلى تحويله إلى “مركز لذاكرة الإسلام وثقافاته”، تكريمًا للرواد الذين ساهموا في تأسيس هذا الفضاء قبل نصف قرن.
وفي ختام بيان مؤثر، عبّر ممثلو الجالية عن شعورهم بالخذلان قائلين:
“لقد بلغ الإقصاء حدوده… والمسلمون، مثل غيرهم، جزء من نسيج هذه المدينة، ومن حقهم أن يُحترم تاريخهم وذاكرتهم.”
بين الحنين إلى الماضي والألم من الحاضر، يقف مسجد بواتييه القديم اليوم على مفترق طرق بين الذاكرة والنسيان، بين رمز للاندماج وعلامة على التهميش — فيما ينتظر الجميع إن كانت المدينة ستنصت لنداء التاريخ قبل فوات الأوان.
