فرنسا تُغلق مؤسسة دينية في أنطوني تُلزم النساء بالحصول على إذن من أزواجهن

فرنسا تُغلق مؤسسة دينية في أنطوني تُلزم النساء بالحصول على إذن من أزواجهن

خلف أبواب “معهد الفلك” في أنطوني قرب باريس.. فرنسا تقول إنها اكتشفت قواعد سرّية تميّز بين الرجال والنساء”خلف أبواب “معهد الفلك” في أنطوني قرب باريس.. فرنسا تقول إنها اكتشفت قواعد سرّية تميّز بين الرجال والنساء”

في خطوة تعكس تشدد السلطات الفرنسية في مواجهة ما تعتبره “انحرافات دينية تتعارض مع مبادئ الجمهورية”، أعلن محافظ إقليم هوت دو سين ألكسندر بروجيير عن إغلاق معهد “الفلك” الإسلامي في مدينة أنطوني بالضاحية الباريسية، وذلك بعد تحقيقات مكثفة كشفت أن هذه المؤسسة الإسلامية الصغيرة التي تأسست قبل أكثر من عقد تمارس أنشطة تتنافى مع قيم المساواة والعلمانية التي تشكل جوهر النظام الجمهوري الفرنسي.

القضية التي انفجرت رسمياً في العشرين من أكتوبر 2025 ليست وليدة اللحظة، بل تمخضت عن أشهر من المتابعة الأمنية والإدارية الدقيقة، فقد تلقت محافظة الإقليم في فبراير الماضي بلاغاً رسمياً يتحدث عن “أنشطة مشبوهة ذات طابع إسلاموي” داخل المعهد، الذي يقدم نفسه كمؤسسة ثقافية وتعليمية متخصصة في علوم الإسلام واللغة العربية.

غير أن تقارير أجهزة المراقبة المحلية بيّنت أن المعهد يتبنى قواعد تمييزية واضحة، إذ يشترط على النساء الحصول على إذن خطي من الزوج أو الأب لحضور الدروس، ويفرض عليهن الجلوس خلف الرجال وارتداء لباس يغطي الجسد بالكامل باستثناء الوجه واليدين.

هذه الممارسات، التي وُصفت بأنها مخالفة صريحة للمبادئ الدستورية، كانت الشرارة التي دفعت السلطات إلى فتح تحقيق موسع.

محافظ هوت دو سين، ألكسندر بروجيير، الذي يُعرف في الأوساط السياسية الفرنسية بأنه أحد أبرز الإداريين المقربين من وزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان، جعل من مكافحة الإسلام السياسي “أولوية مطلقة”، بحسب ما صرح به في أكثر من مناسبة.

و يرى أن الجمهورية الفرنسية لا يمكنها التهاون مع أي مؤسسة أو جمعية تروج لفكر يتعارض مع قيم المساواة بين الجنسين.

وقد قال بروجيير في بيان رسمي عقب قرار الإغلاق: “الجمهورية لا تساوم على المساواة بين الرجل والمرأة. لن نسمح بوجود مؤسسات تنشر تمييزاً مبنياً على أساس الدين أو العادات الاجتماعية، القانون فوق الجميع، والدين لا يعلو على الجمهورية”.

القرار حظي بدعم مباشر من وزير الداخلية الجديد لوران نونيز، الذي كان على اطلاع على الملف منذ أن كان محافظ شرطة باريس، العلاقة الوثيقة بين الرجلين منحت هذا القرار بعداً سياسياً خاصاً، إذ جرى تنفيذه بسرعة ودون المرور بمسار إداري طويل، ما يعكس رغبة الحكومة في إرسال رسالة قوية مفادها أن أي مخالفة للقيم العلمانية ستواجه بصرامة مطلقة.

المعهد الذي أُغلق لم يكن مجهولاً لدى سكان أنطوني، فقد تأسس في عام 2013 وسط حي سكني هادئ يُعرف باسم “باكونيه”، وأثار منذ البداية احتجاجات من بعض السكان الذين اعتبروا أن وجود مؤسسة دينية بهذا الطابع في قلب حي عائلي قد يغير الطابع الاجتماعي للمنطقة.

لكن بعد سنوات من الهدوء، عادت الأنظار إليه بعد أن تبين أن القائمين عليه استقطبوا عدداً من الدارسين الذين تلقوا تعليمهم الديني في بلدان مثل سوريا وموريتانيا، وهو ما أثار القلق لدى الأجهزة الأمنية التي تخشى عودة الفكر السلفي إلى الضواحي الباريسية.

وخلال عمليات التفتيش التي أجرتها السلطات المحلية، تم تسجيل خمس عشرة مخالفة خطيرة لشروط السلامة العامة، بينها غياب مخرج طوارئ مناسب، وعدم مطابقة نظام التهوية لمعايير استقبال الجمهور، وضعف تجهيزات الإطفاء.

كما تبين أن المبنى الذي يشغله المعهد لم يحصل على الموافقات الهندسية المطلوبة لاستقبال عدد كبير من الزوار.

هذه الانتهاكات دفعت اللجنة الإقليمية للأمن إلى إصدار توصية فورية بإغلاق المعهد إلى حين تصحيح الأوضاع، لكن الإدارة المسؤولة عن المؤسسة لم تلتزم بالمهلة التي حددها قرار البلدية حتى الثامن عشر من أكتوبر، ما أدى إلى تنفيذ الإغلاق الإداري القسري في العشرين من الشهر ذاته.

الملفت في القضية أن رئيس الجمعية المشرفة على المعهد هو فرنسي اعتنق الإسلام في سن مبكرة وتلقى تكويناً دينياً في الخارج، قبل أن يؤسس هذه المؤسسة بهدف “تعليم اللغة العربية والقرآن وعلوم الشريعة”.

ورغم إصراره على أن المعهد “يحترم القوانين الفرنسية” و أنه “يهدف إلى نشر المعرفة الدينية في إطار منظم”، فإن السلطات اعتبرت أن نشاطه يحمل “نزعة انفصالية واضحة” تسعى إلى تكوين مجتمع موازٍ يبتعد عن القيم الجمهورية.

ردود الفعل على قرار الإغلاق تباينت بشكل حاد، فبينما رحبت جمعيات علمانية وسياسيون فرنسيون بالقرار واعتبروه “إشارة قوية ضد محاولات الأسلمة المتطرفة للمجتمع”، اعتبرت جمعيات إسلامية أنه “خطوة جديدة في مسار تقييد حرية المعتقد والتعبير الديني في فرنسا”.

بعض المعلقين رأوا في الخطوة “تجسيداً للتوتر العميق الذي يعيشه المجتمع الفرنسي بين حماية القيم الجمهورية وضمان حرية المعتقد”، معتبرين أن الدولة باتت تخلط بين مكافحة التطرف ومراقبة الممارسات الدينية المشروعة.

الحكومة الفرنسية دافعت من جهتها عن القرار مؤكدة أنه “لا يستهدف الإسلام كدين”، بل يهدف إلى “ضمان التزام كل المؤسسات الدينية بالقانون وبقيم الجمهورية”.

وزير الداخلية لوران نونيز صرح أمام لجنة برلمانية بأن “الحدود واضحة: الجمهورية تحمي حرية العبادة، لكنها لا تسمح لأي جماعة بتقويض مبادئ المساواة والعلمانية”.

هذه القضية ليست معزولة، بل تأتي في سياق حملة حكومية أوسع بدأت منذ إقرار قانون “مكافحة الانفصالية” عام 2021، الذي منح السلطات صلاحيات أكبر لمراقبة الجمعيات الدينية والتعليمية وإغلاق أي مؤسسة يشتبه في مخالفتها للقيم الوطنية.

ومنذ ذلك الحين، أغلقت وزارة الداخلية عشرات المدارس والمساجد والجمعيات التي رأت فيها بؤراً للفكر المتطرف أو مراكز ضغط ثقافي موجه ضد الدولة.

ورغم أن معهد “الفلك” لم يُتهم رسمياً بنشر خطابات تحريضية أو تمويل خارجي، فإن السلطات تعتبر أن مجرد فرض قواعد تفصل بين الرجال والنساء أو اشتراط إذن ولي الأمر يمثل “تهديداً ناعماً للنموذج الفرنسي في العيش المشترك”.

ويرى مراقبون أن فرنسا، التي تضم أكبر جالية مسلمة في أوروبا، تسير نحو نموذج متشدد من العلمانية قد يؤدي إلى زيادة الاحتقان في الأحياء ذات الغالبية المسلمة.

في النهاية، يظل إغلاق معهد ألفولك حدثاً تتجاوز دلالاته حدود أنطوني أو محافظة هوت دو سين، إذ يعكس المسار الذي تسلكه الدولة الفرنسية في السنوات الأخيرة لتأكيد هيبتها في مواجهة كل ما تعتبره تحدياً لهويتها الجمهورية.

وبينما تؤكد الحكومة أن هذه الإجراءات ضرورية لحماية السلم الأهلي، يرى آخرون أنها قد تفتح الباب أمام مزيد من التوتر بين السلطات والجاليات المسلمة، لتبقى فرنسا عالقة بين خيارين صعبين: صون مبادئها الصارمة أو الحفاظ على انسجامها الاجتماعي.

‎إضافة تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

You may also like

نكهة الوطن في قلب فرنسا : نورة الزكراوي تحوّل طبق الحلزون المغربي إلى مشروع يربط الجاليات العربية

في ضاحية بوندي القريبة من باريس، تفتح الشابة